مثّل سقوط ما تبقى من النظام السوري حلقة جديدة في تطورات المشهد الإقليمي، حلقة لن تكون الأخيرة في إطار عملية تغيير عميق في موازين القوى الإقليمية، العملية التي أطلقها هجوم المقاومة الفلسطينية على الكيان الصهيوني في 7 أكتوبر 2023. فتح هجوم أكتوبر الباب واسعاً أمام احتمالات تعزيز الحلف القاتل ضد إسرائيل، لكنها ظلت احتمالات ضمن مجموعة أخرى ومعاكسة من الاحتمالات، وإن ما نشهده اليوم هو تحقق تلك المجموعة الأخرى، التي يمكن تلخيصها في قدرة الكيان الصهيوني على الخروج من مأزق 7 أكتوبر بتحقيق انتصار استراتيجي في الجهات الجغرافية الأربعة.
إن تحقق أي من الاحتمالات التاريخية مرهون بسياق تاريخي تستجيب فيه الأطراف المختلفة بشكل يلبي الشروط الموضوعية لتحقق هذا الاحتمال التاريخي أو ذاك. وهذه الاستجابة ذاتها مرتبطة بطبيعة القوى الفاعلة في المشهد وحدود مشاريعها السياسية والاجتماعية. وعلى الرغم من استمرار القتال في غزة، فإن المشهد العام هو مشهد هزيمة عربية شاملة تفرض فيه إسرائيل وحلفها شروطهم التي تلبي لإسرائيل وللمصالح الإمبريالية التي تمثلها كل الشروط وعلى رأسها شرط الأمن وتقويض كل قدرة عربية حالية أو مستقبلية على القتال من جديد.
ليس القول بحلول الهزيمة الآن قولاً انهزامياً، بل هو شرط مبدئي لأي بحث عن بدائل المستقبل، فإذا كانت المقاومة هي الخيار الوحيد المطروح أمام الجماهير العربية، فإن واجب كل من يؤمن بهذا الخيار أن يقدم ما يشبه جردة الحساب في ضوء خبرات العام الذي افتتحته نيران المقاومين الفلسطينيين في صباح 7 أكتوبر 2023. جردة حساب للنموذج الذي فرض حضوره على الساحة العربية منذ أواسط الثمانينيات.
فككت إسرائيل وحلفاؤها وتابعوها محور المقاومة، وطرحت المشروع الإيراني أرضاً، على الرغم من أن اتجاه الضربة الإسرائيلية الرئيسية كان باتجاه الجنوب أي قطاع غزة، فإن إسرائيل استطاعت تقويض القدرة الإيرانية على المجابهة عبر عمل تدريجي على جبهة الشمال في ما يشبه عملية جراحية شديدة الدقة طاحت بحزب الله فإذا بها تطيح بكل قدرة إيرانية على التأثير في مجريات الصراع في الإقليم، بانكفاء الحزب ظهرت حقيقة الهيكل الذي وقف على رأسه بشار الأسد لسنوات، وانهار عبر 10 أيام كانت كل ما احتاجته هيئة تحرير الشام التمدد من جيب إدلب إلى حلب وحمص وحماة ودمشق.
حُسمت قضية المشروع الإيراني لا في غزة ولا في سوريا بل في لبنان. لكنها لم تحسم خلال هذا العام، فالحقيقة أن هيكل المشروع الإيراني نفسه انطوى على التناقض الذي أفضى في النهاية إلى قدرة إسرائيل على تسوية المسألة الإيرانية دون القدر المتوقع من المقاومة. ما هذا التناقض إذن؟ إنه التناقض بين الشعار الذي رفعه محور «الممانعة» حول تحرير فلسطين وبين قاعدة مشروع التحرير نفسه. ليس تحرير فلسطين مسألة حشد البنادق والصواريخ وتشييد الأنفاق، إنه قبل كل ذلك تحديد القاعدة الشعبية للمشروع نفسه. من هم هؤلاء أصحاب المصلحة الحقيقية في تحرير فلسطين. أي لماذا يعتبر تحرير فلسطين مسألة ضرورية تتعدى النطاق الأخلاقي المتمثل في رفض هذا الظلم التاريخي الفادح الذي حاق بالشعب الفلسطيني المسلوب من الأرض والوطن؟ إن تحرير فلسطين هو مهمة أخلاقية بالطبع لكن ما يعطي المسألة طابعها الوجودي هو أنه بإحلال الصهاينة مكان الفلسطينيين تأسست للاستعمار قاعدة لترويع شعوب المنطقة ورأس جسر تثب منه المصالح الاستعمارية الغربية على الشرق كله، الشرق كله جغرافياً، لكن اجتماعياً، تمثل إسرائيل وحلفاؤها وتابعوها مجموعة من المصالح هي نقيض مصالح الجماهير الشعبية العربية، العمال والفلاحين والطلبة والمثقفين والموظفين والمهنيين وكل من هو متضرر من هيمنة الرأسمال الأجنبي على الموارد والأسواق العربية.
هذا التحليل الذي طرحته بشكل مبسط ليس جديداً لكن تم دفنه لصالح خطاب ترافق مع صعود الثورة الإسلامية، أو اكتسب بصعود الثورة الإسلامية قوة دفع وشرعية حولت تحرير فلسطين إلى قضية دينية هذا أولاً، ثم نفي طابعها الطبقي لصالح الطابع الوطني من جهة، واستخدامها للتغطية على الارتكاز الطائفي للمشروع الإيراني. لماذا نقول الارتكاز الطائفي؟ لأن إيران فشلت في إيجاد موطئ قوة خارج البلاد ذات المكون الشيعي، هذا الارتكاز هو تجسيد لجوهر المشروع الإيراني نفسه، مشروع نفوذ إقليمي بشعارات زاعقة ضد "الاستكبار" الأمريكي والإسرائيلي، ولعل سيادة مصطلح الاستكبار في لغة المحور نابعة من فهم ضيق لطبيعة علاقات القوى في النظام العالمي.
إن إيران لم تطرح أبداً فكرة إقامة نظام عالمي بديل بل بالأحرى طرحت فكرة نظام إقليمي متعدد الأقطاب على أرضية الاقتسام المشترك للنفوذ ومن ثم للموارد في منطقة يرتع فيها الأمريكيون والإسرائيليون. هذا الفهم للأمور كان عاملاً مؤسساً في الاستراتيجية الإيرانية، خلق بؤر نفوذ فعلية على الأرض، أي تغيير في موازين القوى على الأرض كان في العقل الإيراني لا بد سيجبر أصحاب الهيمنة على المنطقة على الامتثال لهذا الواقع وتلبية ولو حد أدنى من شروط إنشاء إمبراطورية إيرانية صغرى.
نفي الطابع الطبقي للأشياء هو إثبات لطبقيتها، فإن كان المظهر المذهبي للسياسة الإيرانية فجاً، فإنه لم ينجح في نفي حقيقة الأمور على الأرض. وإن كنا لسنا بصدد تحليل طبيعة النظام القائم في إيران طبقياً، فإنه من المهم تشريح جثة حزب الله أو على الأقل الإحاطة العامة بطبيعتها، فالحزب ذو البنية الشيعية الخالصة كان استجابة لشكوى الشيعة القديمة حول استبعادهم من التمثيل في المؤسسات الحاكمة في لبنان، كان الشيعة خارج المحاصصة، وتحديداً أغنياء الشيعة الذين عادوا بثروات من الخارج تبحث عن التوظيف الآمن الذي لا يتحقق سوى بقدر من النفوذ السياسي.
وككل منظمات الإسلام السياسي حمل الحزب طبيعة مزدوجة، مقاتلوه الأشد وقواعده من الفئات الشعبية التي كانت في ما مضى تمثل البيئة الأساسية التي استمد منها اليسار اللبناني كوادره وتحديداً الحزب الشيوعي اللبناني، ومن جهة أخرى لم يرفع الحزب برنامجاً سياسياً يسعى لتحسين الظروف الاجتماعية لفقراء الشيعة الذين تحملوا بجانب فقرهم، كل عربدة إسرائيل وجرائمها في الجنوب اللبناني.
لقد خرج الحزب برصيده من القتال ضد إسرائيل ليستثمره في انتزاع اعتراف لبناني بحصة تمثيل لشيعة لبنان في نظامه السياسي. وبالتدريج تحول الحزب لأحد ممثلي الرأسمال اللبناني الشيعي الكبير، وليس وصف رأس المال هنا بالشيعي سوى للدلالة على الحدود التمثيلية للحزب غير أنه في الحقيقة تصرف الحزب بشراكة مع كل مكونات الرأسمال اللبناني الكبير وبقدر من المسؤولية تجاه مصالح هذا الأخير جعله ومع صعود نفوذه وشعبيته التي تجاوزت الحدود المذهبية وسلاحه الذي صار أكثر قوة، تحول لأهم عوامل تثبيت المشروع الطائفي في لبنان باعتباره الصيغة الوحيدة التي تستطيع من خلالها البرجوازية اللبنانية تأبيد بقاءها.
هكذا كان الحزب قادراً على الحفاظ على نظام هدر وسفه امتص الدم اللبناني حتى النخاع وهو يلوح بشرعية سلاحه الذي اعتبر أن كل دعوة للإصلاح أو التغيير في لبنان هو تهديد لهذا السلاح. بالتوازي مع هذا أنشأ الحزب شبكة من المؤسسات الخيرية هي الفتات الذي تلقيه البرجوازية البنكية الشيعية لفقراء طائفتها الذين يخوضون المعركة ضد إسرائيل والذين يرتكز عليهم الحزب عسكرياً وسياسياً. بالرغم من شراكة الحزب مع المكونات الأخرى في البرجوازية اللبنانية، فإنها شراكة تتسم بعداء ينبع تحديداً من رغبة كامنة لدى الآخرين في تقويض منافع وحصص بعضهم البعض، هي نفس الرغبة التي جعلت الموارنة يقاتلون طويلاً ضد تعديل حصة الشراكة السنية في مؤسسات الحكم. هذا العداء القائم في التركيبة الحاكمة في لبنان جكان له طريقان للتطور، إما السعي لتدمير الطائفية أو أن تصبح تلك التركيبة قيداً على حركة الحزب في أي وقت يولي وجهه فيه شطر إسرائيل لقتالها.
وهذا بالضبط ما حدث، كان الشهيد حسن نصر الله سياسياً قديراً، كان يدرك حساسية الموقف الذي يواجهه، فقد وضعه هجوم المقاومة الفلسطينية في أكتوبر أمام مسارات عديدة. الصمت التام ما يعني فقدان سلاحه لشرعيته، ودحضه لكل المبررات التي ساقها إبان تدخله في الحرب الأهلية السورية. وإما الاستفادة من المبادرة التي انتزعها الفلسطينيون وضرب إسرائيل في العمق بما يعنيه ذلك من خسائر ضخمة للطرفين. لكنه ابتدع طريقاً ثالثاً اتضح أنه طريق نهاية الحزب العملية. فإنه بالإسناد المحدود قد تخلص من عواقب الصمت التام، لكنه بالإسناد المحدود منح إسرائيل المبرر لضرب لبنان والحزب، وهكذا كانت ضربات الحزب على الشمال يقابلها - وهذا اتضح فيما بعد - ضربات صهيونية دقيقة على مستودعات الصواريخ، ضربات علي البقاع لقطع الإمداد، وضربات في بيروت أدركت منها إسرائيل أن الحزب يخشى الحرب لأنه راح يُسقط خطوطه الحمراء في كل مرة تجترئ فيها إسرائيل على ضربة في العمق اللبناني.
استنزفت الضربات الإسرائيلية قدرات الحزب في حين لم تفلح ضربات الحزب في وضع إسرائيل تحت ضغط كافٍ حتى مع إنجاز تهجير آلاف المستوطنين داخلياً فإن ما تصوره الحزب ضغطاً ضخماً على الطغمة الصهيونية الحاكمة لم يكن في الحقيقة في وعي الإسرائيليين سوى ضريبة يدفعونها في حربهم الوجودية ضد الشعوب العربية.
بحلول ضربة إسرائيل لأجهزة البيجر كان أمر الحزب قد حُسم عملياً. وما تلاها كانت محاولة من الحزب لجمع أشلائه بيديه وتحت ضغط إسرائيلي. وفي تقديري أن اغتيال نصر الله كان تتويجاً للمأساة، لكن وجوده لم يكن ليغير في المشهد كثيراً، فنعيم قاسم لم يحرف الحزب عن المسار إلى مسار آخر، هو استجاب لواقع هزيمة المنظمة، باتفاق يسلخ جبهة لبنان عن جبهة غزة لأن ربط الجبهتين لم يعد له قيمة فعلية سوى أنه يزيد آلام اللبنانيين ويعمق خسائر الحزب خصوصاً في الداخل الذي أدرك أن إسرائيل قد منحت بقية مكونات النظام فرصة لصياغة المرحلة الجديدة بطريقة لم تكن ممكنة قبل 7 أكتوبر.
لماذا لم يفتح الحزب النار من البداية؟ ليس فقط لأنه مرتبط بشدة بإيران التي كان اهتمامها الأكبر منذ أول أيام الحرب ينصب على صيانة عناصر قوتها التي لا تشكل غزة ومقاومتها فيها إلا واجهة. لا يمكن تجاهل رسائل وزير الخارجية السابق عبداللهيان في بدايات الحرب، لقد كشفت الحدود التي ستذهب إليها إيران والحزب في القتال. أقول لم تكن إيران الكابح الوحيد بل كانت المصالح التي مثلها الحزب والمكاسب التي تحققت للرأسمالية الشيعية تحتم على الحزب ألا ينخرط في قتال واسع يحول لبنان والحزب إلى رماد، وكان النظام السياسي اللبناني المرتبط بولاءات أخرى، ولاءات لمشاريع إقليمية ونفوذ قوى دولية، النظام الذي كان الحزب شريكاً فيه كان كابحاً آخر لحرية حركته.
إن المقاومة هي مقولة اجتماعية بالأساس، وهي مشروع جماهيري يعني أنه مشروع تشيده الجماهير وتقاتل من أجله، لا نيابة لأحد فيه عنها، وبما أنها مشروع جماهيري فإنه يستهدف تحقيق مصالحها النقيضة للمصالح التي يمثلها الكيان الصهيوني وشبكة تحالفاته الإقليمية والدولية. ومن مصر عبدالناصر إلى سوريا البعث إلى عراق البعث إلى حزب الله وإلى آخر التجارب، الدرس التاريخي هو أن استبعاد الجماهير من العملية التاريخية، ومقابلة المواجهة مع العدو بالقمع وحماية مصالح الرأسمال المحلي ونفي الصراع الطبقي قهراً لصالح مقولات تقول بلا تاريخية الطائفة والقومية، ومعاداة الديمقراطية لصالح مفاهيم ممجوجة عن تعبئة الشعب كله ودولة الشعب كله، هي ما قادت في الحقيقة إلى كافة الهزائم.
لكن، هل مات التاريخ؟ إن مشهد الهيمنة الصهيونية الحالي شديد الكآبة، حيث يدفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً جراء سعيهم للانعتاق. مشهد النصر الصهيوني الذي يبدو مشهد الختام هو كذلك بالفعل. لكنه ختام مرحلة تاريخية ومشروع تفسخ بعد أن استنفذ فرصته التاريخية في المجابهة مع العدو. ومن هذه الجثة المتفسخة يجب أن تستخلص الجماهير العربية ومثقفوها الثوريون الدروس التي تعلموها بالدم الكثيف الذي سال في فلسطين المحتلة ولبنان وسوريا واليمن. إن الإقليم كما عهدناه قد تغير، تفتح البلاد العربية الآن عينها على مشهد تصعد فيه إسرائيل قمة جبروتها كممثل جدير بتمثيله للمصالح الإمبريالية، وتصعد فيه تركيا لتحتل الفراغ الذي خلقته الهزيمة الإيرانية، مشهد تبدو فيه المنطقة فريسة لمخالب مشاريع النفوذ والهيمنة وهي كذلك بالفعل، لكنه مشهد مؤقت، فكما صعد القوميون، وكما صعد الإسلام السياسي، كاستجابة مشوهة لسعي الشعوب العربية نحو حريتها، فإن تلك الشعوب سوف تصيغ بديلاً جماهيرياً لصيغ الهزيمة ولو كان سيخرج معمداً بالدم فإن هذا هو حال كل جديد يولد من رحم القديم.